الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير النسفي المسمى بـ «مدارك التنزيل وحقائق التأويل» ***
مختلف فيها وهي ست وثلاثون آية. بسم الله الرحمن الرحيم {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3) أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (4) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (6) كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (7) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ (8) كِتَابٌ مَرْقُومٌ (9) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (10) الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (11) وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آَيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (13) كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14) كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ (16) ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (17) كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (18) وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ (19) كِتَابٌ مَرْقُومٌ (20) يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ (21) إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (22) عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (23) تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (24) يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (25) خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ (26) وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ (27) عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ (28) إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا يَضْحَكُونَ (29) وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ (30) وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ (31) وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاءِ لَضَالُّونَ (32) وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ (33) فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (34) عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (35) هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (36)} {وَيْلٌ} مبتدأ خبره {لّلْمُطَفّفِينَ} للذين يبخسون حقوق الناس في الكيل والوزن {الذين إِذَا اكتالوا عَلَى الناس يَسْتَوْفُونَ} أي إذا أخذوا بالكيل من الناس يأخذون حقوقهم وافية تامة. ولما كان اكتيالهم من الناس اكتيالاً يضرهم ويتحامل فيه عليهم أبدل على مكان من للدلالة على ذلك، ويجوز أن يتعلق «على» ب {يَسْتَوْفُونَ} ويقدم المفعول على الفعل لإفادة الاختصاص أي يستوفون على الناس خاصة. وقال الفراء: «من» و«على» يعتقبان في هذا الموضع لأنه حق عليه، فإذا قال: اكتلت عليك فكأنه قال: أخذت ما عليك، وإذا قال: اكتلت منك فكأنه قال: استوفيت منك. والضمير المنصوب في {وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَّزَنُوهُمْ} راجع إلى الناس أي كالوا لهم أو وزنوا لهم فحذف الجار وأوصل الفعل. وإنما لم يقل أو اتزنوا كما قيل {أَوْ وَّزَنُوهُمْ} اكتفاء، ويحتمل أن المطففين كانوا لا يأخذون ما يكال ويوزن إلا بالمكاييل لتمكنهم بالاكتيال من الاستيفاء والسرقة لأنهم يدعدعون ويحتالون في الملء، وإذا أعطوا كالوا أو وزنوا لتمكنهم من البخس في النوعين {يُخْسِرُونَ} ينقصون يقال خسر الميزان وأخسره. {أَلا يَظُنُّ أولئك أَنَّهُمْ مَّبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ} يعني يوم القيامة. أدخل همزة الاستفهام على «لا» النافية توبيخاً وليست «ألا» هذه للتنبيه، وفيه إنكار وتعجيب عظيم من حالهم في الاجتراء على التطفيف كأنهم لا يخطرون ببالهم ولا يخمنون تخميناً أنهم مبعوثون ومحاسبون على مقدار الذرة، ولو ظنوا أنهم يبعثون ما نقصوا في الكيل والوزن. وعن عبد الملك بن مروان أن أعرابياً قال له: لقد سمعت ما قال الله في المطففين، أراد بذلك أن المطفف قد توجه عليه الوعيد العظيم الذي سمعت به فما ظنك بنفسك وأنت تأخذ أموال المسلمين بلا كيل ولا وزن ونصب؟! {يَوْمَ يَقُومُ الناس} بمبعوثون {لِرَبّ العالمين} لأمره وجزائه. وعن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قرأ هذه السورة فلما بلغ هنا بكى نحيباً وامتنع من قراءة ما بعده {كَلاَّ} ردع وتنبيه أي ردعهم عما كانوا عليه من التطفيف والغفلة عن البعث والحساب، ونبههم على أنه مما يجب أن يتاب عنه ويندم عليه. ثم اتبعه وعيد الفجار على العموم فقال {إِنَّ كتاب الفجار} صحائف أعمالهم {لَفِى} {سِجّينٍ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجّينٌ * كتاب مَّرْقُومٌ} فإن قلت: قد أخبر الله تعالى عن كتاب الفجار بأنه في سجين وفسر سجيناً بكتاب مرقوم فكأنه قيل: إن كتابهم في كتاب مرقوم فما معناه؟ قلت: سجين كتاب جامع هو ديوان الشرّ دوّن الله فيه أعمال الشياطين والكفرة من الجن والإنس، وهو كتاب مرقوم مسطور بيّن الكتابة، أو معلم يعلم من رآه أنه لا خير فيه من رقم الثياب علامتها. والمعنى أن ما كتب من أعمال الفجار مثبت في ذلك الديوان. وسمي سجيناً فعّيلاً من السجن وهو الحبس والتضييق لأنه سبب الحبس والتضييق في جهنم، أو لأنه مطروح تحت الأرض السابعة في مكان وحش مظلم وهو مسكن إبليس وذريته، وهو اسم علم منقول من وصف كحاتم منصرف لوجود سبب واحد وهو العلمية فحسب {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ} يوم يخرج المكتوب {لّلْمُكَذّبِينَ الذين يُكَذّبُونَ بِيَوْمِ الدين} الجزاء والحساب {وَمَا يُكَذّبُ بِهِ} بذلك اليوم {إِلاَّ كُلُّ مُعْتَدٍ} مجاوز للحد {أَثِيمٍ} مكتسب للإثم {إِذَا تتلى عَلَيْهِ ءاياتنا} أي القرآن {قَالَ أساطير الأولين} أي أحاديث المتقدمين. وقال الزجاج: أساطير أباطيل واحدها أسطورة مثل أحدوثة وأحاديث. {كَلاَّ} ردع للمعتدي الأثيم عن هذا القول {بَلْ} نفي لما قالوا ويقف حفص على {بَل} وقيفة {رَانَ على قُلُوبِهِمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} عطاها كسبهم أي غلب على قلوبهم حتى غمرها ما كانوا يكسبون من المعاصي. وعن الحسن: الذنب بعد الذنب حتى يسودّ القلب. وعن الضحاك: الرين موت القلب. وعن أبي سليمان: الرين والقسوة زماماً الغفلة ودواؤهما إدمان الصوم فإن وجد بعد ذلك قسوة فليترك الإدام. {كَلاَّ} ردع عن الكسب الرائن على القلب {إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ} عن رؤية ربهم {يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ} لممنوعون والحجب: المنع قال الزجاج: في الآية دليل على أن المؤمنين يرون ربهم وإلا لا يكون التخصيص مفيداً. وقال الحسين بن الفضل: كما حجبهم في الدنيا عن توحيده حجبهم في العقبى عن رؤيته. وقال مالك بن أنس رحمه الله: لما حجب أعداءه فلم يروه تجلى لأوليائه حتى رأوه. وقيل: عن كرامة ربهم لأنهم في الدنيا لم يشكروا نعمه فيئسوا في الآخرة عن كرامته مجازاة. والأول أصح لأن الرؤية أقوى الكرامات فالحجب عنها دليل الحجب عن غيرها {ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُواْ الجحيم} ثم بعد كونهم محجوبين عن ربهم لداخلون النار {ثُمَّ يُقَالُ هذا الذى كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} أي هذا العذاب هو الذي كنتم تكذبون به في الدنيا وتنكرون وقوعه. {كَلاَّ} ردع عن التكذيب {إِنَّ كتاب الأبرار} ما كتب من أعمالهم والأبرار المطيعون الذين لا يطففون ويؤمنون بالبعث لأنه ذكر في مقابلة الفجار، وبيّن الفجار بأنهم المكذبون بيوم الدين. وعن الحسن: البر الذي لا يؤذي الذر {لَفِى عِلِّيِّينَ} هو علم لديوان الخير الذي دوّن فيه كل ما عملته الملائكة وصلحاء الثقلين منقول من جمع «عليّ» فعيل من العلو سمي به لأنه سبب الارتفاع إلى أعالي الدرجات في الجنة، أو لأنه مرفوع في السماء السابعة حيث يسكن الكروبيون تكريماً له {وَمَا أَدْرَاكَ} ما الذي أعلمك يا محمد {مَا عِلِّيُّونَ} أي شيء هو {كتاب مَّرْقُومٌ * يَشْهَدُهُ المقربون} تحضره الملائكة. قيل: يشهد عمل الأبرار مقربو كل سماء إذا رفع {إِنَّ الأبرار لَفِى نَعِيمٍ} تنعم في الجنان {على الأرآئك} الأسرة في الحجال {يَنظُرُونَ} إلى كرامة الله ونعمه وإلى أعدائهم كيف يعذبون {تَعْرِفُ فِى وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النعيم} بهجة التنعم وطراوته {يُسْقَوْنَ مِن رَّحِيقٍ} شراب خالص لا غش فيه {مَّخْتُومٍ * ختامه مِسْكٌ} تختم أوانيه بمسك بدل الطين الذي يختم به الشراب في الدنيا. أمر الله تعالى بالختم عليه إكراماً لأصحابه أو ختامه مسك مقطعه رائحة مسك أي توجد رائحة المسك عند خاتمة شربه. {خاتمه} عليّ {وَفِى ذَلِكَ} الرحيق أو النعيم {فَلْيَتَنَافَسِ المتنافسون} فليرغب الراغبون وذا إنما يكون بالمسارعة إلى الخيرات والانتهاء عن السيئات {وَمِزَاجُهُ} ومزاج الرحيق {مِن تَسْنِيمٍ} هو علم لعين بعينها سميت بالتسنيم الذي هو مصدر سنّمه إذا رفعه لأنها أرفع شراب في الجنة، أو لأنها تأتيهم من فوق وتنصب في أوانيهم {عَيْناً} حال أو نصب على المدح {يَشْرَبُ بِهَا} أي منها {المقربون} عن ابن عباس وابن مسعود رضي الله عنهم: يشربها المقربون صرفاً وتمزج لأصحاب اليمين. {إِنَّ الذين أَجْرَمُواْ} كفروا {كَانُواْ مِنَ الذين ءَامَنُواْ يَضْحَكُونَ} في الدنيا استهزاء بهم. {وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ} يشير بعضهم إلى بعض بالعين طعناً فيهم وعيباً لهم. قيل: جاء علي رضي الله عنه في نفر من المسلمين فسخر منهم المنافقون وضحكوا وتغامزوا وقالوا: أترون هذا الأصلع فنزلت قبل أن يصل عليّ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم {وَإِذَا انقلبوا إلى أَهْلِهِمْ} أي إذا رجع إلى الكفار منازلهم {انقلبوا فَكِهِينَ} متلذذين بذكرهم والسخرية منهم. وقرأ غير حفص {فاكهين} أي فرحين {وَإِذَا رَأَوْهُمْ} وإذا رأى الكافرون المؤمنين {قَالُواْ إِنَّ هَؤُلاَءِ لَضَالُّونَ} أي خدع محمد هؤلاء فضلوا وتركوا اللذات لما يرجونه في الآخرة من الكرامات، فقد تركوا الحقيقة بالخيال وهذا هو عين الضلال {وَمَا أُرْسِلُواْ} وما أرسل الكفار {عَلَيْهِمْ} على المؤمنين {حافظين} يحفظون عليهم أحوالهم ويرقبون أعمالهم بل أمروا بإصلاح أنفسهم فاشتغالهم بذلك أولى بهم من تتبع غيرهم وتسفيه أحلامهم {فاليوم} أي من يوم القيامة {الذين ءَامَنُواْ مِنَ الكفار يَضْحَكُونَ} ثم كما ضحكوا منهم هنا مجازاة {عَلَى الأرآئك يَنظُرُونَ} حال أي يضحكون منهم ناظرين إليهم وإلى ما هم فيه من الهوان والصغار بعد العزة والاستكبار وهم على الأرائك آمنون. وقيل: يفتح للكفار باب إلى الجنة فيقال لهم: هلموا إلى الجنة، فإذا وصلوا إليها أغلق دونهم فيضحك المؤمنون منهم {هَلْ ثُوِّبَ الكفار مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ} هل جوزوا بسخريتهم بالمؤمنين في الدنيا إذا فعل بهم ما ذكر؟ والله أعلم.
{إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ (1) وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (2) وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (3) وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ (4) وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (5)} {إِذَا السماء انشقت} تصدعت وتشققت {وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا} سمعت وأطاعت وأجابت ربها إلى الانشقاق ولم تأب ولم تمتنع {وَحُقَّتْ} وحق لها أن تسمع وتطيع لأمر الله إذ هي مصنوعة مربوبة لله تعالى {وَإِذَا الأرض مُدَّتْ} بسطت وسويت باندكاك جبالها وكل أمت فيها {وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا} ورمت ما في جوفها من الكنوز والموتى {وَتَخَلَّتْ} وخلت غاية الخلو حتى لم يبق شيء في باطنها كأنها تكلفت أقصى جهدها في الخلو. يقال: تكرم الكريم إذا بلغ جهده في الكرم وتكلف فوق ما في طبعه {وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا} في إلقاء ما في بطنها وتخليها {وَحُقَّتْ} وهي حقيقة بأن تنقاد ولا تمتنع، وحذف جواب «إذا» ليذهب المقدر كل مذهب، أو اكتفاء بما على بمثلها من سورتي التكوير والانفطار، أو جوابه ما دل عليه {فملاقيه} أي إذا السماء انشقت لاقى الإنسان كدحه.
{يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ (6) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا (8) وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا (9) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ (10) فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا (11) وَيَصْلَى سَعِيرًا (12) إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا (13) إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ (14) بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا (15) فَلَا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ (16) وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ (17) وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ (18) لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ (19) فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (20) وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآَنُ لَا يَسْجُدُونَ (21) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ (22) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ (23) فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (24) إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (25)} {ياأيها الإنسان} خطاب للجنس {إِنَّكَ كَادِحٌ إلى رَبِّكَ كَدْحاً} جاهد إلى لقاء ربك وهو الموت وما بعده من الحال الممثلة باللقاء {فملاقيه} الضمير للكدح وهو جهد النفس في العمل والكد فيه حتى يؤثر فيها، والمراد جزاء الكدح إن خيراً فخير وإن شراً فشر. وقيل: لقاء الكدح لقاء كتاب فيه ذلك الكدح يدل عليه قوله {فَأَمَّا مَنْ أُوتِىَ كتابه بِيَمِينِهِ} أي كتاب عمله {فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً} سهلاً هيناً وهو أن يجازي على الحسنات ويتجاوز عن السيئات. وفي الحديث «من يحاسب يعذب» فقيل: فأين قوله {فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً}؟ قال: «ذلكم العرض من نوقش في الحساب عذب» {وَيَنقَلِبُ إلى أَهْلِهِ} إلى عشيرته إن كانوا مؤمنين، أو إلى فريق المؤمنين، أو إلى أهله في الجنة من الحور العين {مَسْرُوراً} فرحاً {وَأَمَّا مَنْ أُوتِىَ كتابه وَرَاءَ ظَهْرِهِ} قيل: تغل يمناه إلى عنقه وتجعل شماله وراء ظهره فيؤتى كتابه بشماله من وراء ظهره {فَسَوْفَ يَدْعُواْ ثُبُوراً} يقول: يا ثبوراه والثبور الهلاك {ويصلى} عراقي غير علي {سَعِيراً} أي ويدخل جهنم {إِنَّهُ كَانَ} في الدنيا {فِى أَهْلِهِ} معهم {مَسْرُوراً} بالكفر يضحك ممن آمن بالبعث. قيل: كان لنفسه متابعاً وفي مراتع هواه راتعاً. {إِنَّهُ ظَنَّ أَن لَّن يَحُورَ} لن يرجع إلى ربه تكذيباً بالبعث. قال ابن عباس رضي الله عنهما: ما عرفت تفسيره حتى سمعت أعرابية تقول لبنتها: حوري أي ارجعي {بلى} إيجاب لما بعد النفي في {لَّن يَحُورَ} أي بلى ليحورن {إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ} وبأعماله {بَصِيراً} لا يخفى عليه فلا بد أن يرجعه ويجازيه عليها. {فَلاَ أُقْسِمُ بالشفق} فأقسم بالبياض بعد الحمرة أو الحمرة {واليل وَمَا وَسَقَ} جمع وضم والمراد ما جمعه من الظلمة والنجم، أو من عمل فيه من التهجد وغيره {والقمر إِذَا اتسق} اجتمع وتم بدراً افتعل من الوسق {لَتَرْكَبُنَّ} أيها الإنسان على إرادة الجنس {طَبَقاً عَن طَبقٍ} حالاً بعد حال، كل واحدة مطابقة لأختها في الشدة والهول. والطبق ما طابق غيره يقال: ما هذا بطبق لذا أي لا يطابقه، ومنه قيل للغطاء الطبق، ويجوز أن يكون جمع طبقة وهي المرتبة من قولهم: هو على طبقات، أي لتركبن أحوالاً بعد أحوال هي طبقات في الشدة بعضها أرفع من بعض وهي الموت وما بعده من مواطن القيامة وأهوالها. ومحل {عَن طَبقٍ} نصب على أنه صفة ل {طَبَقاً} أي طبقاً مجاوزاً لطبق، أو حال من الضمير في {لَتَرْكَبُنَّ} أي لتركبن طبقاً مجاوزين لطبق. وقال مكحول: في كل عشرين عاماً تجدون أمراً لم تكونوا عليه. وبفتح الباء: مكي وعلي وحمزة. والخطاب له عليه السلام أي طبقاً من طباق السماء بعد طبق أي في المعراج. {فَمَا لَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} فما لهم في أن لا يؤمنوا {وَإِذَا قُرِئ عَلَيْهِمُ القرءان لاَ يَسْجُدُونَ} لا يخضعون {بَلِ الذين كَفَرُواْ يُكَذِّبُونَ} بالبعث والقرآن {والله أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ} بما يجمعون في صدورهم ويضمرون من الكفر وتكذيب النبي صلى الله عليه وسلم، أو بما يجمعون في صحفهم من أعمال السوء ويدخرون لأنفسهم من أنواع العذاب {فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} أخبرهم خبراً يظهر أثره على بشرتهم {إِلاَّ الذين ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات} استثناء منقطع {لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} غير مقطوع أو غير منقوص، والله أعلم.
مكية وهي اثنتان وعشرون آية. بسم الله الرحمن الرحيم {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ (1) وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (2) وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ (3) قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ (4) النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ (5) إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ (6) وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (7) وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (8) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (9)} {والسماء ذَاتِ البروج} هي البروج الاثنا عشر. وقيل: النجوم أو عظام الكواكب {واليوم الموعود} يوم القيامة {وشاهد وَمَشْهُودٍ} أي وشاهد في ذلك اليوم ومشهود فيه، والمراد بالشاهد من يشهد فيه من الخلائق كلهم، وبالمشهود فيه ما في ذلك اليوم من عجائبه. وطريق تنكيرهما إما ما ذكرته في قوله {عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا أَحْضَرَتْ} [التكوير: 14] كأنه قيل: ما أفرطت كثرته من شاهد ومشهود، وإما للإبهام في الوصف كأنه قيل: وشاهد ومشهود لا يكتنه وصفهما. وقد كثرت أقاويل المفسرين فيهما فقيل: محمد صلى الله عليه وسلم ويوم القيامة أو عيسى وأمته لقوله: {وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَّا دُمْتُ فِيهِمْ} [المائدة: 117]. أو أمة محمد وسائر الأمم، أو الحجر الأسود والحجيج، أو الأيام والليالي وبنو آدم للحديث: «ما من يوم إلا وينادي أنا يوم جديد وعلى ما يفعل فيّ شهيد فاغتنمني فلو غابت شمسي لم تدركني إلى يوم القيامة» أو الحفظة وبنو آدم، أو الله تعالى والخلق لقوله تعالى: {وكفى بالله شَهِيداً} [الفتح: 28] [النساء: 79] أو الأنبياء ومحمد عليهم السلام. وجواب القسم محذوف يدل عليه {قُتِلَ أصحاب الأخدود} أي لعن كأنه قيل: أقسم بهذه الأشياء إنهم ملعونون يعني كفار قريش كما لعن أصحاب الأخدود، وهو خد أي شق عظيم في الأرض. رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان لبعض الملوك ساحر فلما كبر ضموا إليه غلاماً ليعلمه السحر. وكان في طريق الغلام راهب فسمع منه فرأى في طريقه ذات يوم دابة قد حبست الناس فأخذ حجراً فقال: «اللهم إن كان الراهب أحب إليك من الساحر فاقتلها» فقتلها فكان الغلام بعد ذلك يبرئ الأكمه والأبرص. وعمي جليس للملك فأبرأه فأبصره الملك فسأله من رد عليك بصرك؟ فقال: ربي. فغضب فعذبه فدل على الغلام، فعذبه فدل على الراهب، فلم يرجع الراهب عن دينه فقدّ بالمنشار، وأبى الغلام فذهب به إلى جبل ليطرح من ذروته فدعا فرجف بالقوم فطاحوا ونجا، فذهب به إلى قرقور فلجّجوا به ليغرقوه فدعا فانكفأت بهم السفينة فغرقوا ونجا فقال للملك: لست بقاتلي حتى تجمع الناس في صعيد وتصلبني على جذع وتأخذ سهماً من كنانتي وتقول: باسم الله رب الغلام ثم ترميني به، فرماه فوقع في صدغه فوضع يده عليه فمات فقال الناس: آمنا برب الغلام. فقيل للملك: نزل بك ما كنت تحذر. فخدّ أخدوداً وملأها ناراً فمن لم يرجع عن دينه طرحه فيها حتى جاءت امرأة معها صبي فتقاعست أن تقع فيها فقال الصبي: يا أماه اصبري فإنك على الحق فألقي الصبي وأمه فيها {النار} بدل اشتمال من الأخدود {ذَاتِ الوقود} وصف لها بأنها نار عظيمة لها ما يرتفع به لهبها من الحطب الكثير وأبدان الناس {إِذْ} ظرف لقتل أي لعنوا حين أحرقوا بالنار قاعدين حولها {هُمْ عَلَيْهَا} أي الكفار على ما يدنو منها من حافات الأخدود {قُعُودٌ} جلوس على الكراسي {وَهُمْ} أي الكفار {على مَا يَفْعَلُونَ بالمؤمنين} من الإحراق {شُهُودٌ} يشهد بعضهم لبعض عند الملك أن أحداً منهم لم يفرط فيما أمر به وفوض إليه من التعذيب، وفيه حث للمؤمنين على الصبر وتحمل أذى أهل مكة {وَمَا نَقَمُواْ مِنْهُمْ إِلاَّ أَن يُؤْمِنُواْ} وما عابوا منهم وما أنكروا إلا الإيمان كقوله: ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم *** وقوله: ما نقموا من بني أمية إل *** لاّ أنهم يحلمون إن غضبوا وقرئ {نَقَمُواْ} بالكسر والفصيح هو الفتح {بالله العزيز الحميد} ذكر الأوصاف التي يستحق بها أن يؤمن به وهو كونه عزيزاً غالباً قادرا يخشى عقابه حميداً منعماً يجب له الحمد على نعمته ويرجى ثوابه {الذى لَهُ مُلْكُ السماوات والأرض} فكل من فيهما تحق عليه عبادته والخشوع له تقريراً لأن ما نقموا منهم هو الحق الذي لا ينقمه إلا مبطل، وأن الناقمين أهل لانتقام الله منهم بعذاب عظيم {والله على كُلِّ شَئ شَهِيدٌ} وعيد لهم يعني أنه علم ما فعلوا وهو مجازيهم عليه.
{إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ (10) إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ (11) إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (12) إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ (13) وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (14) ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (15) فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (16) هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ (17) فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ (18) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ (19) وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ (20) بَلْ هُوَ قُرْآَنٌ مَجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ (22)} {إِنَّ الذين فَتَنُواْ المؤمنين والمؤمنات} يجوز أن يريد بالذين فتنوا أصحاب الأخدود خاصة وبالذين آمنوا المطروحين في الأخدود، ومعنى فتنوهم عذبوهم بالنار وأحرقوهم {ثُمَّ لَمْ يَتُوبُواْ} لم يرجعوا عن كفرهم {فَلَهُمْ} في الآخرة {عَذَابُ جَهَنَّمَ} بكفرهم {وَلَهُمْ عَذَابُ الحريق} في الدنيا لما رُوي أن النار انقلبت عليهم فأحرقتهم، ويجوز أن يريد الذين فتنوا المؤمنين أي بلوهم بالأذى على العموم والمؤمنين المفتونين، وأن للفاتنين عذابين في الآخرة لكفرهم ولفتنتهم. {إِنَّ الذين ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات لَهُمْ جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار ذَلِكَ الفوز الكبير} أي الذين صبروا على تعذيب الأخدود أو هو عام {إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ} البطش: الأخذ بالعنف فإذا وصف بالشدة فقد تضاعف وتفاقم، والمراد أخذه الظلمة والجبابرة بالعذاب والانتقام {إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئ وَيُعِيدُ} أي يخلقهم ابتداء ثم يعيدهم بعد أن صيرهم تراباً، دل باقتداره على الابداء والإعادة على شدة بطشه، أو أوعد الكفرة بأنه يعيدهم كما أبدأهم ليبطش بهم إذ لم يشكروا نعمة الابداء وكذبوا بالإعادة {وَهُوَ الغفور} الساتر للعيوب العافي عن الذنوب {الودود} المحب لأوليائه. وقيل: الفاعل لأهل الطاعة ما يفعله الودود من إعطائهم ما أرادوا {ذُو العرش} خالقه ومالكه {المجيد} وبالجر: حمزة وعلي على أنه صفة للعرش ومجد الله عظمته ومجد العرش علوه وعظمه {فَعَّالٌ} خبر مبتدأ محذوف {لِّمَا يُرِيدُ} تكوينه فيكون فيه دلالة خلق أفعال العباد. {هَلُ أَتَاكَ حَدِيثُ الجنود} أي قد أتاك خبر الجموع الطاغية في الأمم الخالية {فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ} بدل من {الجنود} وأراد بفرعون إياه وآله والمعنى قد عرفت تكذيب تلك الجنود للرسل وما نزل بهم لتكذيبهم {بَلِ الذين كَفَرُواْ} من قومك {فِى تَكْذِيبٍ} واستيجاب للعذاب ولا يعتبرون بالجنود لا لخفاء حال الجنود عليهم لكن يكذبونك عناداً {والله مِن وَرَائِهِمْ مُّحِيطٌ} أي عالم بأحوالهم وقادر عليهم وهم لا يعجزونه، والإحاطة بهم من ورائهم مثل لأنهم لا يفوتونه كما لا يفوت الشيء المحيط به {بَلْ هُوَ} بل هذا الذي كذبوا به {قُرْءَانٌ مَّجِيدٌ} شريف عالي الطبقة في الكتب وفي نظمه وإعجازه ليس كما يزعمون أنه مفترى وأنه أساطير الأولين {فِى لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ} من وصول الشياطين إليه {مَّحْفُوظٍ}: نافع صفة للقرآن أي من التغيير والتبديل. واللوح عند الحسن شيء يلوح للملائكة فيقرؤونه، وعند ابن عباس رضي الله عنهما وهو من درة بيضاء طولها ما بين السماء والأرض، وعرضه ما بين المشرق والمغرب، قلمه نور وكل شيء فيه مسطور. مقاتل: هو على يمين العرش. وقيل: أعلاه معقود بالعرش وأسفله في حجر ملك كريم، والله أعلم.
مكية وهي سبع عشرة آية. بسم الله الرحمن الرحيم {وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ (2) النَّجْمُ الثَّاقِبُ (3) إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ (4) فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ (5) خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ (6) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ (7) إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ (8) يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ (9) فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلَا نَاصِرٍ (10) وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ (11) وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ (12) إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ (13) وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ (14) إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا (15) وَأَكِيدُ كَيْدًا (16) فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا (17)} {والسماء والطارق * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطارق * النجم الثاقب} عظم قدر السماء في أعين الخلق لكونها معدن رزقهم ومسكن ملائكته، وفيها خلق الجنة فأقسم بها وبالطارق والمراد جنس النجوم، أو جنس الشهب التي يرجم بها لعظم منفعتها، ثم فسره بالنجم الثاقب أي المضيء كأنه يثقب الظلام بضوئه فينفذ فيه، ووصف بالطارق لأنه يبدو بالليل كما يقال للآتي ليلاً طارق، أو لأنه يطرق الجني أي يصكه. وجواب القسم {إِن كُلُّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ} لأن {لَّمّاً} إن كانت مشددة بمعنى «إلا» كقراءة عاصم وحمزة وابن عامر فتكون «إن» نافية أي ما كل نفس إلا عليها حافظ، وإن كانت مخففة كقراءة غيرهم فتكون «إن» مخففة من الثقيلة أي إن كل نفس لعليها حافظ يحفظها من الآفات، أو يحفظ عملها ورزقها وأجلها، فإذا استوفى ذلك مات. وقيل: هو كاتب الأعمال ف «ما» زائدة واللام فارقة بين الثقيلة والخفيفة، و{حَافِظٌ} مبتدأ و{عَلَيْهَا} الخبر، والجملة خبر {كُلٌّ} وأيتهما كانت فهي مما يتلقى به القسم. {فَلْيَنظُرِ الإنسان مِمَّ خُلِقَ} لما ذكر أن على كل نفس حافظاً أمره بالنظر في أول أمره ليعلم أن من أنشأه قادر على إعادته وجزائه فيعمل ليوم الجزاء ولا يملي على حافظه إلا ما يسرّه في عاقبته. و{مِمَّ خُلِقَ} استفهام أي من أي شيء خلق جوابه {خُلِقَ مِن مَّاءٍ دَافِقٍ} والدفق: صب فيه دفع. والدفق في الحقيقة لصاحبه والإسناد إلى الماء مجاز. وعن بعض أهل اللغة: دفقت الماء دفقاً: صببته ودفق الماء بنفسه أي انصب. ولم يقل من ماءين لامتزاجهما في الرحم واتحادهما حين ابتدئ في خلقه {يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصلب والترائب} من صلب الرجل وترائب المرأة وهي عظام الصدر حيث تكون القلادة. وقيل: العظم والعصب من الرجل واللحم والدم من المرأة {إِنَّهُ} إن الخالق لدلالة خلق عليه ومعناه إن الذي خلق الإنسان ابتداء من نطفة {على رَجْعِهِ} على إعادته خصوصاً {لَقَادِرٌ} لبيّن القدرة لا يعجز عنه كقوله: إنني لفقير أي لبيّن الفقر. ونصب {يَوْمَ تبلى} أي تكشف برجعه أو بمضمر دل عليه قوله {رَجْعِهِ} أي يبعثه يوم تبلى {السرائر} ما أسرّ في القلوب من العقائد والنيات وما أخفى من الأعمال {فَمَا لَهُ} فما للإنسان {مِن قُوَّةٍ} في نفسه على دفع ما حل به {وَلاَ نَاصِرٍ} يعينه ويدفع عنه. {والسماء ذَاتِ الرجع} أي المطر وسمي به لعوده كل حين {والأرض ذَاتِ الصدع} هو ما تتصدع عنه الأرض من النبات {إِنَّهُ} إن القرآن {لَقَوْلٌ فَصْلٌ} فاصل بين الحق والباطل كما قيل له فرقان {وَمَا هوَ بالهزل} باللعب والباطل يعني أنه جد كله ومن حقه، وقد وصفه الله بذلك أن يكون مهيباً في الصدور معظماً في القلوب، يرتفع به قارئه وسامعه أن يلم بهزل أو يتفكه بمزاح {أَنَّهُمْ} يعني مشركي مكة {يَكِيدُونَ كَيْداً} يعملون المكايد في إبطال أمر الله وأطفاء نور الحق {وَأَكِيدُ كَيْداً} وأجازيهم جزاء كيدهم باستدراجي لهم من حيث لا يعلمون فسمي جزاء الكيد كيداً كما سمي جزاء الاعتداء والسيئة اعتداء وسيئة وإن لم يكن اعتداء وسيئة، ولا يجوز إطلاق هذا الوصف على الله تعالى إلا على وجه الجزاء كقوله: {نَسُواْ الله فَنَسِيَهُمْ} [التوبة: 67] {يخادعون الله وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [النساء: 142] {الله يَسْتَهْزِئ بِهِمْ} [البقرة: 15] {فَمَهِّلِ الكافرين} أي لا تدع بهلاكهم ولا تستعجل به {أَمْهِلْهُمْ} أنظرهم فكرر وخالف بين اللفظين لزيادة التسكين والتصبير {رُوَيْداً} مهلاً يسيراً ولا يتكلم بها إلا مصغّرة وهي من رادت الريح ترود روداً تحركت حركة ضعيفة.
مكية وهي تسع عشرة آية. بسم الله الرحمن الرحيم {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى (3) وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى (4) فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى (5) سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى (6) إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى (7) وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى (8) فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى (9) سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى (10) وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى (11) الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى (12) ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى (13) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (15) بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (16) وَالْآَخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (17) إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى (18) صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى (19)} {سَبِّحِ اسم رَبّكَ الأعلى} نزه ذاته عما لا يليق به، والاسم صلة وذلك بأن يفسر الأعلى بمعنى العلو الذي هو القهر والاقتدار لا بمعنى العلو في المكان. وقيل: قل سبحان ربي الأعلى. وفي الحديث لما نزلت قال عليه السلام: " اجعلوها في سجودكم " {الذى خَلَقَ فسوى} أي خلق كل شيء فسوى خلقه تسوية ولم يأت به متفاوتاً غير ملتئم ولكن على إحكام واتساق، دلالة على أنه صادر عن عالم حكيم، أو سوَّاه على ما فيه منفعة ومصلحة {والذى قَدَّرَ فهدى} أي قدر لكل حيوان ما يصلحه فهداه إليه وعرفه وجه الانتفاع به، أو فهدى وأضل ولكن حذف وأضل اكتفاء كقوله: {يُضِلُّ مَن يَشَآء وَيَهْدِى مَن يَشَآء} [النحل: 93] [فاطر: 8]. {قُدِرَ} عليّ {والذى أَخْرَجَ المرعى} أنبت ما ترعاه الدواب {فَجَعَلَهُ غُثَاءً} يابساً هشيماً {أحوى} أسود {فأحوى} صفة الغثاء {أحوى سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تنسى} سنعلمك القرآن حتى تنساه {إِلاَّ مَا شَاء الله} أن ينسخه وهذا بشارة من الله لنبيه أن يحفظ عليه الوحي حتى لا ينفلت منه شيء إلا ما شاء الله أن ينسخه فيذهب به عن حفظه برفع حكمه وتلاوته. وسأل ابن كيسان النحوي جنيداً عنه فقال: فلا ننسى العمل به فقال: مثلك يصدر. وقيل: قوله {فَلاَ تنسى} على النهي والألف مزيدة للفاصلة كقوله: {السبيلا} [الأحزاب: 67] أي فلا تغفل قراءته وتكريره فتنساه إلا ما شاء الله أن ينسيكه برفع تلاوته {إِنَّهُ يَعْلَمُ الجهر وَمَا يخفى} أي إنك تجهر بالقراءة مع قراءة جبريل مخافة التفلت والله يعلم جهرك معه وما في نفسك مما يدعوك إلى الجهر، أو ما تقرأ في نفسك مخافة النسيان، أو يعلم ما أسررتم وما أعلنتم من أقوالكم وأفعالكم وما ظهر وما بطن من أحوالكم. {وَنُيَسِّرُكَ لليسرى} معطوف على {سَنُقْرِئُكَ} وقوله {إِنَّهُ يَعْلَمُ الجهر وَمَا يخفى} اعتراض ومعناه ونوفقك للطريقة التي هي أيسر وأسهل يعني حفظ الوحي. وقيل: للشريعة السمحة التي هي أيسر الشرائع أو نوفقك لعمل الجنة {فَذَكِّرْ} عظ بالقرآن {إِن نَّفَعَتِ الذكرى} جواب «إن» مدلول قوله {فَذَكِّرْ} قيل: ظاهره شرط ومعناه استبعاد لتأثير الذكرى فيهم. وقيل: هو أمر بالتذكير على الإطلاق كقوله: {فَذَكّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكّرٌ} [الغاشية: 21]. غير مشروط بالنفع {سَيَذَّكَّرُ} سيتعظ ويقبل التذكرة {مَن يخشى} الله وسوء العاقبة {وَيَتَجَنَّبُهَا} ويتباعد عن الذكرى فلا يقبلها {الأشقى} الكافر أو الذي هو أشقى الكفرة لتوغله في عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم. قيل: نزلت في الوليد بن المغيرة وعتبة بن ربيعة {الذى يَصْلَى النار الكبرى} يدخل نار جهنم والصغرى نار الدنيا {ثُمَّ لاَ يَمُوتُ فِيهَا} فيستريح من العذاب {وَلاَ يحيى} حياة يتلذذ بها. وقيل: «ثم» لأن الترجح بين الحياة والموت أفظع من الصلي فهو متراخٍ عنه في مراتب الشدة. {قَدْ أَفْلَحَ} نال الفوز {مَن تزكى} تطهر من الشرك أو تطهر للصلاة أو أدى الزكاة تفعل من الزكاة كتصدق من الصدقة {وَذَكَرَ اسم رَبِّهِ} وكبر للافتتاح {فصلى} الخمس وبه يحتج على وجوب تكبيرة الافتتاح، وعلى أنها ليست من الصلاة، لأن الصلاة عطفت عليها وهو يقتضي المغايرة، وعلى أن الافتتاح جائز بكل اسم من أسمائه عز وجل. وعن ابن عباس رضي الله عنهما: ذكر معاده وموقفه بين يدي ربه وصلى له. وعن الضحاك: وذكر اسم ربه في طريق المصلى فصلى صلاة العيد {بَلْ تُؤْثِرُونَ الحياة الدنيا} على الآخرة فلا تفعلون ما به تفلحون. والمخاطب به الكافرون دليله قراءة أبي عمرو {يؤثرون} بالياء {والآخرة خَيْرٌ وأبقى} أفضل من نفسها وأدوم {إِنَّ هذا لَفِى الصحف الأولى} هذا إشارة إلى قوله {قَدْ أَفْلَحَ} إلى {أبقى} أي أن معنى هذا الكلام وارد في تلك الصحف أو إلى ما في السورة كلها، وهو دليل على جواز قراءة القرآن بالفارسية في الصلاة لأنه جعله مذكوراً في تلك الصحف مع أنه لم يكن فيها بهذا النظم وبهذه اللغة {صُحُفِ إبراهيم وموسى} بدل من {الصحف الأولى} وفي الأثر وفي صحف إبراهيم: ينبغي للعاقل أن يكون حافظاً للسانه عارفاً بزمانه مقبلاً على شأنه.
مكية وهي ست وعشرون آية. بسم الله الرحمن الرحيم {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ (1) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ (2) عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ (3) تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً (4) تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آَنِيَةٍ (5) لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ (6) لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ (7) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ (8) لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ (9) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (10) لَا تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً (11) فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ (12) فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ (13) وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ (14) وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ (15) وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ (16) أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18) وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (20) فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ (22) إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ (23) فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ (24) إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ (25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ (26)} {هَلُ} بمعنى «قد» {أَتَاكَ حَدِيثُ الغاشية} الداهية التي تغشى الناس بشدائدها وتلبسهم أهوالها يعني القيامة. وقيل: النار من قوله: {وتغشى وُجُوهَهُمْ النار} [إبراهيم: 50] {وُجُوهٌ} أي وجوه الكفار، وإنما خص الوجه لأن الحزن والسرور إذا استحكما في المرء أثراً في وجهه {يَوْمَئِذٍ} يوم إذ غشيت {خاشعة} ذليلة لما اعترى أصحابها من الخزي والهوان {عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ} تعمل في النار عملاً تتعب فيه وهو جرها السلاسل والأغلال وخوضها في النار كما تخوض الإبل في الوحل، وارتقاؤها دائبة في صعود من نار وهبوطها في حدور منها. وقيل: عملت في الدنيا أعمال السوء والتذت بها وتنعمت فهي في نصب منها في الآخرة. وقيل: هم أصحاب الصوامع ومعناه أنها خشعت الله وعملت ونصبت في أعمالها من الصوم الدائب والتهجد الواصب {تصلى نَاراً حَامِيَةً} تدخل ناراً قد أحميت مدداً طويلة فلا حر يعدل حرها {تصلى} أبو عمرو وأبو بكر {تسقى مِنْ عَيْنٍ ءَانِيَةٍ} من عين ماء قد انتهى حرها، والتأنيث في هذه الصفات والأفعال راجعة إلى الوجوه والمراد أصحابها بدليل قوله {لَّيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلاَّ مِن ضَرِيعٍ} وهو نبت يقال له الشِّبرِق فإذا يبس فهو ضريع وهو سم قاتل، والعذاب ألوان والمعذبون طبقات، فمنهم أكلة الزقوم، ومنهم أكلة الغسلين، ومنهم أكلة الضريع، فلا تناقض بين هذه الآية وبين قوله {وَلاَ طَعَامٌ إِلاَّ مِنْ غِسْلِينٍ} [الحاقة: 36] {لاَّ يُسْمِنُ} مجرور المحل لأنه وصف {ضَرِيعٍ} {وَلاَ يُغْنِى مِن جُوعٍ} أي منفعتا الغذاء منتفيتان عنه وهما إماطة الجوع وإفادة السمن في البدن. {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ} ثم وصف وجوه المؤمنين ولم يقل ووجوه لأن الكلام الأول قد طال وانقطع {نَّاعِمَةٌ} متنعمة في لين العيش {لِّسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ} رضيت بعملها وطاعتها لما رأت ما أداهم إليه من الكرامة والثواب {فِى جَنَّةٍ عَالِيَةٍ} من علو المكان أو المقدار {لاَ تَسْمَعُ} يا مخاطب أو الوجوه {فِيهَا لاغية} أي لغواً أو كلمة ذات لغو أو نفساً تلغو، لا يتكلم أهل الجنة إلا بالحكمة وحمد الله على ما رزقهم من النعيم الدائم. {لاَ يَسْمَعُ فِيهَا لاغية}: مكي وأبو عمرو: {لاَّ تُسْمَعُ فِيهَا لاغية} نافع {فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ} أي عيون كثيرة كقوله: {عَلِمَتْ نَفْسٌ} [الانفطار: 5] {فِيهَا سُرُرٌ} جمع سرير {مَّرْفُوعَةٍ} من رفعة المقدار أو السمك ليرى المؤمن بجلوسه عليه جميع ما خوله ربه من الملك والنعيم. {وَأَكْوابٌ} جمع كوب وهو القدح. وقيل: آنية لا عروة لها {مَّوْضُوعَةٌ} بين أيديهم ليتلذذوا بها بالنظر إليها أو موضوعة على حافات العيون معدة للشرب {وَنَمَارِقُ} وسائد {مَصْفُوفَةٌ} بعضها إلى جنب بعض مساند ومطارح أينما أراد أن يجلس جلس على مسودة واستند إلى الأخرى {وَزَرَابِيُّ} وبسط عراض فاخرة جمع زربية {مَبْثُوثَةٌ} مبسوطة أو مفرقة في المجالس. ولما أنزل الله تعالى هذه الآيات في صفة الجنة، وفسر النبي عليه السلام بأن ارتفاع السرير يكون مائة فرسخ، والأكواب الموضوعة لا تدخل في حساب الخلق لكثرتها، وطول النمارق كذا وعرض الزرابي كذا، أنكر الكفار وقالوا: كيف يصعد على هذا السرير، وكيف تكثر الأكواب هذه الكثرة، وتطول النمارق هذا الطول، وبسط الزرابي هذا الانبساط ولم نشاهد ذلك في الدنيا؟ فقال الله تعالى {أَفَلاَ يَنظُرُونَ إِلَى الإبل كَيْفَ خُلِقَتْ} طويلة ثم تبرك حتى تركب أو يحمل عليها ثم تقوم فكذا السرير يطأطئ للمؤمن كما يطأطئ الإبل {وَإِلَى السماء كَيْفَ رُفِعَتْ} رفعاً بعيد المدى بلا إمساك وعمد، ثم نجومها تكثر هذه الكثرة فلا تدخل في حساب الخلق فكذا الأكواب {وَإِلَى الجبال كَيْفَ نُصِبَتْ} نصباً ثابتاً فهي راسخة لا تميل مع طولها فكذا النمارق {وَإِلَى الأرض كَيْفَ سُطِحَتْ} سطحاً بتمهيد وتوطئة فهي كلها بساط واحد تنبسط من الأفق إلى الأفق فكذا الزرابي؛ ويجوز أن يكون المعنى أفلا ينظرون إلى هذه المخلوقات الشاهدة على قدرة الخالق حتى لا ينكروا اقتداره على البعث فيسمعوا إنذار الرسول ويؤمنوا به ويستعدوا للقائه، وتخصيص هذه الأربعة باعتبار أن هذا خطاب للعرب وحث لهم على الاستدلال، والمرء إنما يستدل بما تكثر مشاهدته له، والعرب تكون في البوادي ونظرهم فيها إلى السماء والأرض والجبال والإبل فهي أعز أموالهم وهم لها أكثر استعمالاً منهم لسائر الحيوانات، ولأنها تجمع جميع المآرب المطلوبة من الحيوان وهي النسل والدر والحمل والركوب والأكل بخلاف غيرها، ولأن خلقها أعجب من غيرها فإنه سخرها منقادة لكل من اقتادها بأزمتها لا تعاز ضعيفاً ولا تمانع صغيراً، وبرأها طوال الأعناق لتنوء بالأوقار، وجعلها بحيث تبرك حتى تحمل عن قرب ويسر، ثم تنهض بما حملت وتجرها إلى البلاد الشاحطة، وصبرها على احتمال العطش حتى إن ظمأها لترتفع إلى العشر فصاعداً، وجعلها ترعى كل نابت في البراري مما لا يرعاه سائر البهائم. {فَذَكِّرْ} فذكرهم بالأدلة ليتفكروا فيها {إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ} ليس عليك إلا التبليغ {لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ} بمسلط كقوله {وَمَا أَنتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ} [ق: 45]، {بمصيطر}: مدني وبصري وعلي وعاصم {إِلاَّ مَن تولى وَكَفَرَ * فَيْعَذِّبُهُ الله العذاب الأكبر} الاستثناء منقطع أي لست بمسؤول عليهم ولكن من تولى منهم وكفر بالله فإن لله الولاية عليه والقهر فهو يعذبه العذاب الأكبر وهو عذاب جهنم. وقيل: هو استثناء من قوله {فَذَكِّرْ} أي فذكر إلا من انقطع طمعك من إيمانه وتولى فاستحق العذاب الأكبر وما بينهما اعتراض {إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ} رجوعهم، وفائدة تقديم الظرف التشديد في الوعيد وإن إيابهم ليس إلا إلى الجبار المقتدر على الانتقام {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ} فنحاسبهم على أعمالهم ونجازيهم بها جزاء أمثالهم و«على» لتأكيد الوعيد لا للوجوب إذ لا يجب على الله شيء.
بسم الله الرحمن الرحيم {وَالْفَجْرِ (1) وَلَيَالٍ عَشْرٍ (2) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (3) وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ (4) هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ (5) أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ (6) إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (7) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ (8) وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ (9) وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ (10) الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ (11) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ (12) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ (13) إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ (14)} {والفجر} أقسم بالفجر وهو الصبح كقوله {والصبح إِذَا أَسْفَرَ} [المدثر: 34]، أو بصلاة الفجر {وَلَيالٍ عَشْرٍ} عشر ذي الحجة أو العشر الأول من المحرم، أو الآخر من رمضان. وإنما نكرت لزيادة فضيلتها {والشفع والوتر} شفع كل الأشياء ووترها أو شفع هذه الليالي ووترها، أو شفع الصلاة ووترها، أو يوم النحر لأنه اليوم العاشر ويوم عرفة لأنه اليوم التاسع، أو الخلق والخالق. {والوتر} حمزة وعلي، وبفتح الواو غيرهما، وهما لغتان: فالفتح حجازي والكسر تميمي. وبعد ما أقسم بالليالي المخصوصة أقسم بالليل على العموم فقال {واليل} وقيل: أريد به ليلة القدر {إِذَا يَسْرِ} إذا يمضي وياء {يَسْرِ} تحذف في الدرج اكتفاء عنها بالكسرة، وأما في الوقف فتحذف مع الكسرة. وسأل واحد الأخفش عن سقوط الياء فقال: لا، حتى تخدمني سنة فسأله بعد سنة فقال: الليل لا يسري وإنما يسرى فيه، فلما عدل عن معناه عدل عن لفظه موافقة. وقيل: معنى يسري: يسرى فيه كما يقال: ليل نائم أي ينام فيه. {هَلْ فِى ذَلِكَ} أي فيما أقسمت به من هذه الأشياء {قَسَمٌ} أي مقسم به {لِّذِى حِجْرٍ} عقل سمي به لأنه يحجر عن التهافت فيما لا ينبغي كما سمي عقلاً ونهية لأنه يعقل وينهى، يريد هل تحقق عنده أن تعظم هذه الأشياء بالإقسام بها، أو هل في إقسامي بها إقسام لذي حجر أي هل هو قسم عظيم يؤكد بمثله المقسم عليه؟ أو هل في القسم بهذه الأشياء قسم مقنع لذي عقل ولب؟ والمقسم عليه محذوف وهو قوله «ليعذبن» يدل عليه قوله {أَلَمْ تَرَ} إلى قوله: {فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ}. ثم ذكر تعذيب الأمم التي كذبت الرسل فقال {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذاتِ العماد} أي ألم تعلم يا محمد علماً يوازي العيان في الإيقان؟ وهو استفهام تقرير قيل: لعقب عاد ابن عوص بن إرم بن سام بن نوح عاد ما يقال لبني هاشم هاشم، ثم قيل للأولين منهم: عاد الأولى، والإرم تسمية لهم باسم جدهم ومن بعدهم عاد الأخيرة، ف {إِرَمَ} عطف بيان ل {عَادٍ} وإيذان بأنهم عاد الأولى القديمة. وقيل: إرم بلدتهم وأرضهم التي كانوا فيها ويدل عليه قراءة ابن الزبير {بِعَادٍ * إِرَمَ} على الإضافة وتقديره بعاد أهل إرم كقوله {واسئل القرية} [يوسف: 82] ولم تنصرف قبيلة كانت أو أرضاً للتعريف والتأنيث وذات العماد إذا كانت صفة للقبيلة، فالمعنى أنهم كانوا بدويين أهل عمد أو طوال الأجسام على تشبيه قدودهم بالأعمدة وإن كانت صفة للبلدة أنها ذات أساطين. ورُوي أنه كان لعاد ابنان: شداد وشديد فملكا وقهرا، ثم مات شديد وخلص الأمر لشداد فملك الدنيا ودانت له ملوكها فسمع بذكر الجنة فقال: أبني مثلها فبنى إرم في بعض صحارى عدن في ثلثمائة سنة وكان عمره تسعمائة سنة وهي مدينة عظيمة قصورها من الذهب والفضة، وأساطينها من الزبرجد والياقوت، وفيها أصناف الأشجار والأنهار. ولما تم بناؤها سار إليها بأهل مملكته، فلما كان منها على مسيرة يوم وليلة بعث الله عليهم صيحة من السماء فهلكوا. وعن عبد الله بن قلابة أنه خرج في طلب إبل له فوقع عليها فحمل ما قدر عليه مما ثمة، وبلغ خبره معاوية فاستحضره فقص عليه فبعث إلى كعب فسأله فقال: هي إرم ذات العماد وسيدخلها رجل من المسلمين في زمانك أحمر أشقر قصير على حاجبه خال وعلى عقبه خال يخرج في طلب إبل له، ثم التفت فأبصر ابن قلابة فقال: هذا والله ذلك الرجل {التى لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِى البلاد} أي مثل عاد في قوتهم وطول قامتهم، كان طول الرجل منهم أربعمائة ذراع، أو لم يخلق مثل مدينة شداد في جميع بلاد الدنيا {وَثَمُودَ الذين جَابُواْ الصخر} قطعوا صخر الجبال واتخذوا فيها بيوتاً. قيل: أول من نحت الجبال والصخور ثمود، وبنوا ألفاً وسبعمائة مدينة كلها من الحجارة {بالواد} بوادي القرى {وَفِرْعَوْنَ ذِى الأوتاد} أي ذي الجنود الكثيرة وكانت لهم مضارب كثيرة يضربونها إذا نزلوا. وقيل: كان له أوتاد يعذب الناس بها كما فعل بآسية {الذين} في محل النصب على الذم، أو الرفع على «هم الذين»، أو الجر على وصف المذكورين عاد وثمود وفرعون {طَغَوْاْ فِى البلاد} تجاوزوا الحد {فَأَكْثَرُواْ فِيهَا الفساد} بالكفر والقتل والظلم {فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ} مجاز عن إيقاع العذاب بهم على أبلغ الوجوه إذا الصب يشعر بالدوام والسوط بزيادة الإيلام أي عذبوا عذاباً مؤلماً دائماً {إِنَّ رَبَّكَ لبالمرصاد} وهو المكان الذي يترقب فيه الرصد مفعال من رصده، وهذا مثل لإرصاده العباد وأنهم لا يفوتونه، وأنه عالم بما يصدر منهم وحافظه فيجازيهم عليه إن خيراً فخير وإن شراً فشر.
{فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ (16) كَلَّا بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (17) وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (18) وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا (19) وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا (20) كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (21) وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22) وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى (23) يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي (24) فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ (25) وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ (26) يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي (30)} {فَأَمَّا الإنسان إِذَا مَا ابتلاه رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبّى أَكْرَمَنِ * وَأَمَّا إِذَا مَا ابتلاه فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ} أي ضيق عليه وجعله بمقدار بلغته، {فَقَدَرَ} شامي ويزيد {فَيَقُولُ رَبّى أَهَانَنِ} أي الواجب لمن ربه بالمرصاد أن يسعى للعاقبة ولا تهمه العاجلة، وهو قد عكس فإنه إذا امتحنه ربه بالنعمة والسعة ليشكر، قال: ربي أكرمني أي فضلني بما أعطاني فيرى الإكرام في كثرة الحظ من الدنيا، وإذا امتحنه بالفقر فقدر عليه رزقه ليصبر، قال: ربي أهانني فيرى الهوان في قلة الحظ من الدنيا لأنه لا تهمه إلا العاجلة وما يلذه وينعمه فيها، فرد عليه زعمه بقوله {كَلاَّ} أي ليس الإكرام والإهانة في كثرة المال وقلته بل الإكرام في توفيق الطاعة والإهانة في الخذلان، وقوله تعالى: {فَيَقُولُ} خبر المبتدأ الذي هو الإنسان، ودخول الفاء لما في «أما» من معنى الشرط، والظرف المتوسط بين المبتدأ والخبر في تقدير التأخير كأنه قيل: فأما الإنسان فقائل ربي أكرمن وقت الابتلاء، وكذا {فَيَقُولُ} الثاني خبر لمبتدأ تقديره: وأما هو إذا ما ابتلاه ربه. وسمى كلا الأمرين من بسط الرزق وتقديره ابتلاء لأن كل واحد منهما اختبار للعبد، فإذا بسط له فقد اختبر حاله أيشكر أم يكفر، وإذا قدر عليه فقد اختبر حاله أيصبر أم يجزع، ونحوه قوله تعالى: {وَنَبْلُوكُم بالشر والخير فِتْنَةً} [الأنبياء: 35]. وإنما أنكر قوله {رَبّى أَكْرَمَنِ} مع أنه أثبته بقوله {فَأَكْرَمَهُ} لأنه قاله على قصد خلاف ما صححه الله عليه وأثبته وهو قصده إن الله أعطاه ما أعطاه إكراماً له لاستحقاقه كقوله {إِنَّمَا أُوتِيتُهُ على عِلْمٍ عِندِى} [القصص: 78] وإنما أعطاه الله تعالى ابتلاء من غير اسحقاق منه. {بَل لاَّ تُكْرِمُونَ اليتيم * وَلاَ تَحَآضُّونَ على طَعَامِ المسكين} أي بل هناك شر من هذا القول وهو أن الله يكرمهم بالغنى فلا يؤدون ما يلزمهم فيه من إكرام اليتيم بالمبرة وحض أهله على طعام المسكين {وَتَأْكُلُونَ التراث} أي الميراث {أَكْلاً لَّمّاً} ذا لم وهو الجمع بين الحلال والحرام، وكانوا لا يورثون النساء ولا الصبيان ويأكلون تراثهم مع تراثهم {وَتُحِبُّونَ المال} يقال حبه وأحبه بمعنى {حُبّاً جَمّاً} كثيراً شديداً مع الحرص ومنع الحقوق، {رَبِّى} حجازي وأبو عمرو {يكرمون} {وَلاَ يحضون} {وَيَأْكُلُونَ} {وَّيُحِبُّونَ} بصري {كَلاَّ} ردع لهم عن ذلك وإنكار لفعلهم. ثم أتى بالوعيد وذكر تحسرهم على ما فرطوا فيه حين لا تنفع الحسرة فقال {إِذَا دُكَّتِ الأرض} إذا زلزلت {دَكّاً دَكّاً} دكاً بعد دك أي كرر عليها الدك حتى عادت هباء منبثاً. {وَجَآءَ رَبُّكَ} تمثيل لظهور آيات اقتداره وتبيين آثار قهره وسلطانه، فإن واحداً من الملوك إذا حضر بنفسه ظهر بحضوره من آثار الهيبة ما لا يظهر بحضور عساكره وخواصه، وعن ابن عباس: أمره وقضاؤه {والملك صَفّاً صَفّاً} أي ينزل ملائكة كل سماء فيصطفون صفاً بعد صف محدقين بالجن والإنس {وَجِاْئ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ} قيل: إنها برزت لأهلها كقوله: {وَبُرّزَتِ الجحيم لِلْغَاوِينَ} [الشعراء: 91]. وقيل: هو مجرى على حقيقته ففي الحديث «يؤتى بجهنم يومئذ لها سبعون ألف زمام مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها» {يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإنسان} أي يتعظ {وأنى لَهُ الذكرى} ومن أين له منفعة الذكرى؟ {يَقُولُ ياليتنى قَدَّمْتُ لِحَيَاتِى} هذه وهي حياة الآخرة أي يا ليتني قدمت الأعمال الصالحة في الحياة الفانية لحياتي الباقية. {فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ} أي لا يتولى عذاب الله أحد لأن الأمر لله وحده في ذلك اليوم {وَلاَ يُوثِقُ} بالسلاسل والأغلال {وَثَاقَهُ أَحَدٌ} قال صاحب الكشاف: لا يعذب أحد أحداً كعذاب الله ولا يوثق أحد أحداً كوثاق الله. {لاَّ يُعَذِّبُ} {وَلاَ يُوثِقُ} علي وهي قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورجع إليها أبو عمرو في آخر عمره، والضمير يرجع إلى الإنسان الموصوف وهو الكافر. وقيل: هو أبي بن خلف أي لا يعذب أحد مثل عذابه، ولا يوثق بالسلاسل مثل وثاقه لتناهيه في كفره وعناده. ثم يقول الله تعالى للمؤمن {ياأيتها النفس} إكراماً له كما كلم موسى عليه السلام أو يكون على لسان ملك {المطمئنة} الآمنة التي لا يستفزها خوف ولا حزن وهي النفس المؤمنة، أو المطمئنة إلى الحق التي سكّنها ثلج اليقين فلا يخالجها شك. ويشهد للتفسير الأول قراءة أبي {يأَيَّتُهَا النفس الآمنةالمطمئنة} وإنما يقال لها عند الموت أو عند البعث أو عند دخول الجنة {ارجعى إلى} موعد {رَبِّكِ} أو ثواب ربك {رَّاضِيَةٍ} من الله بما أوتيت {مَّرْضِيَّةً} عند الله بما عملت {فادخلى فِى عِبَادِى} في جملة عبادي الصالحين فانتظمي في سلكهم {وادخلى جَنَّتِى} معهم. وقال أبو عبيدة: أي مع عبادي أو بين عبادي أي خواصي كما قال: {وَأَدْخِلْنِى بِرَحْمَتِكَ فِى عِبَادِكَ الصالحين} [النمل: 19] وقيل: النفس الروح ومعناه فادخلي في أجساد عبادي كقراءة عبد الله بن مسعود {فِي جسد عبدي} ولما مات ابن عباس بالطائف جاء طائر لم ير على خلقته فدخل في نعشه فلما دفن تليت هذه الآية على شفير القبر ولم يدر من تلاها. قيل: نزلت في حمزة بن عبد المطلب. وقيل: في خبيب بن عدي الذي صلبه أهل مكة وجعلوا وجهه إلى المدينة فقال: اللهم إن كان لي عندك خير فحول وجهي نحو قبلتك، فحول الله وجهه نحوها فلم يستطع أحد أن يحوله. وقيل: هي عامة في المؤمنين إذ العبرة لعموم اللفظ لا لخصوص السبب.
{لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ (1) وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ (2) وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ (4) أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ (5) يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا (6) أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ (7) أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (8) وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ (9) وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ (10) فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ (12) فَكُّ رَقَبَةٍ (13) أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ (15) أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ (16) ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (17) أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (18) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (19) عَلَيْهِمْ نَارٌ مُؤْصَدَةٌ (20)} {لآ أُقْسِمُ بهذا البلد} أقسم سبحانه بالبلد الحرام وبما بعده على أن الإنسان خلق مغموراً في مكابدة المشاق. واعترض بين القسم والمقسم عليه بقوله {وَأَنتَ حِلٌّ بهذا البلد} أي ومن المكابدة أن مثلك على عظم حرمتك يستحل بهذا البلد يعني مكة كما يستحل الصيد في غير الحرم. عن شرحبيل: يحرمون أن يقتلوا بها صيداً ويستحلون إخراجك وقتلك، وفيه تثبيت لرسول الله صلى الله عليه وسلم وبعث على احتمال ما كان يكابد من أهل مكة، وتعجيب من حالهم في عداوته. أو سلى رسول الله بالقسم ببلده على أن الإنسان لا يخلو من مقاساة الشدائد، واعترض بأن وعده فتح مكة تتميماً للتسلية والتنفيس عنه فقال: {وَأَنتَ حِلٌّ بهذا البلد}. أي وأنت حل به في المستقبل تصنع فيه ما تريد من القتل والأسر، وذلك أن الله تعالى فتح عليه مكة وأحلها له وما فتحت على أحد قبله ولا أحلت له، فأحل ما شاء وحرم ما شاء، قتل ابن خطل وهو متعلق بأستار الكعبة ومقيس بن صبابة وغيرهما، وحرم دار أبي سفيان ونظير قوله {وَأَنتَ حِلٌّ} في الاستقبال قوله: {إِنَّكَ مَيّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيّتُونَ} [الزمر: 30]. وكفاك دليلاً على أنه للاستقبال أن السورة مكية بالاتفاق، وأين الهجرة من وقت نزولها فما بال الفتح؟ {وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ} هما آدم وولده، أو كل والد وولده، أو إبراهيم وولده، و«ما» بمعنى «من» أو بمعنى «الذي» {لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان} جواب القسم {فِى كَبَدٍ} مشقة يكابد مصائب الدنيا وشدائد الآخرة. وعن ذي النون: لم يزل مربوطاً بحبل القضاء مدعواً إلى الائتمار والانتهاء. والضمير في {أَيَحْسَبُ أَن لَّن يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ} لبعض صناديد قريش الذين كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكابد منهم ما يكابد، ثم قيل هو أبو الأشد. وقيل: الوليد بن المغيرة. والمعنى أيظن هذا الصنديد القوي في قومه المتصعب للمؤمنين أن لن تقوم قيامه ولن يقدر على الانتقام منه، ثم ذكر ما يقوله في ذلك اليوم وأنه {يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالاً لُّبَداً} أي كثيراً جمع لبدة وهو ما تلبد أي كثر واجتمع، يريد كثرة ما أنفقه فيما كان أهل الجاهلية يسمونها مكارم ومعالي {أَيَحْسَبُ أَن لَّمْ يَرَهُ أَحَدٌ} حين كان ينفق ما ينفق رياء وافتخاراً يعني أن الله تعالى كان يراه وكان عليه رقيباً. ثم ذكر نعمه عليه فقال {أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ} يبصر بهما المرئيات {وَلِسَاناً} يعبر عما في ضميره {وَشَفَتَيْنِ} يستر بهما ثغره ويستعين بهما على النطق والأكل والشرب والنفخ {وهديناه النجدين} طريقي الخير والشر المفضيين إلى الجنة والنار وقيل الثديين. {فَلاَ اقتحم العقبة * وَمَا أَدْرَاكَ مَا العقبة * فَكُّ رَقَبَةٍ * أَوْ إِطْعَامٌ فِى يَوْمٍ ذِى مَسْغَبَةٍ * يَتِيماً ذَا مَقْرَبَةٍ * أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ * ثُمَّ كَانَ مِنَ الذين ءامَنُواْ} يعني فلم يشكر تلك الآيادي والنعم بالأعمال الصالحة من فك الرقاب أو إطعام اليتامى والمساكين، ثم بالإيمان الذي هو أصل كل طاعة وأساس كل خير، بل غمط النعم وكفر بالمنعم. والمعنى أن الإنفاق على هذا الوجه مرضي نافع عند الله لا أن يهلك ماله لبداً في الرياء والفخار. وقلما تستعمل «لا» مع الماضي إلا مكررة، وإنما لم تكرر في الكلام الأفصح لأنه لما فسر اقتحام القبة بثلاثة أشياء صار كأنه أعاد «لا» ثلاث مرات وتقديره: فلا فك رقبة ولا أطعم مسكيناً ولا آمن. والاقتحام الدخول والمجاوزة بشدة ومشقة، والقُحمة الشدة فجعل الصالحة عقبة وعملها اقتحاماً لها في ذلك من معاناة المشقة ومجاهدة النفس. وعن الحسن: عقبة والله شديدة مجاهدة الإنسان نفسه وهواه وعدوه الشيطان. والمراد بقوله {مَا العقبة} ما اقتحامها ومعناه أنك لم تدركنه صعوبتها على النفس وكنه ثوابها عند الله. وفك الرقبة تخليصها من الرق والإعانة في مال الكتابة. {فَكَّ رَقَبَةً * أَوْ إِطْعَامٌ} مكي وأبو عمرو وعلي على الإبدال من اقتحم العقبة، وقوله {وَمَا أَدْرَاكَ مَا العقبة} اعتراض. غيرهم {فَكُّ رَقَبَةٍ * أَوْ إِطْعَامٌ} على: اقتحامها فك رقبة أو إطعام. والمسغبة المجاعة، والمقربة القرابة، والمتربة الفقر، مفعلات من سغب إذا جاع وقرب في النسب. يقال: فلان ذو قرابتي وذو مقربتي. وترب إذا افتقر ومعناه التصق بالتراب فيكون مأواه المزابل ووصف اليوم بذي مسغبة كقولهم همٌّ ناصب أي ذو نصب. ومعنى {ثُمَّ كَانَ مِنَ الذين ءامَنُواْ} أي داوم على الإيمان. وقيل: «ثم» بمعنى الواو. وقيل: إنما جاء ب «ثم» لتراخي الإيمان وتباعده في الرتبة والفضيلة عن العتق والصدقة لا في الوقت، إذ الإيمان هو السابق على غيره ولا يثبت عمل صالح إلا به {وَتَوَاصَوْاْ بالصبر} عن المعاصي وعلى الطاعات والمحن التي يبتلى بها المؤمن {وَتَوَاصَوْاْ بالمرحمة} بالتراحم فيما بينهم {أولئك أصحاب الميمنة} أي المصوفون بهذه الصفات من أصحاب الميمنة {والذين كَفَرُواْ بئاياتنا} بالقرآن أو بدلائلنا {هُمْ أصحاب المشئمة} أصحاب الشمال والميمنة والمشأمة اليمين والشمال، أو اليمن والشؤم أي الميامين على أنفسهم والمشائيم عليهن {عَلَيْهِمْ نَارٌ مُّؤْصَدةٌ} وبالهمز: أبو عمرو وحمزة وحفص أي مطبقة من أوصدت الباب وآصدته إذا أطبقته وأغلقته والله أعلم.
{وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا (1) وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا (2) وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا (3) وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا (4) وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا (5) وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا (6) وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10) كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا (11) إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا (12) فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا (13) فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا (14) وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا (15)} {والشمس وضحاها} وضوئها إذا أشرقت وقام سلطانها {والقمر إِذَا تلاها} تبعها في الضياء والنور وذلك في النصف الأول من الشهر يخلف القمر الشمس في النور {والنهار إِذَا جلاها} جلى الشمس وأظهرها للرائين وذلك عند انتفاخ النهار وانبساطه، لأن الشمس تنجلي في ذلك الوقت تمام الانجلاء. وقيل: الضمير للظلمة أو للدنيا أو للأرض وإن لم يجر لها ذكر كقوله: {مَا تَرَكَ على ظَهْرِهَا مِن دَابَّةٍ} [فاطر: 45] {واليل إِذَا يغشاها} يستر الشمس فتظلم الآفاق. والواو الأولى في نحو هذا للقسم بالاتفاق، وكذا الثانية عند البعض. وعند الخليل: الثانية للعطف لأن إدخال القسم على القسم قبل تمام الأول لا يجوز، ألا ترى أنك لو جعلت موضعها كلمة الفاء أو «ثم» لكان المعنى على حاله؟ وهما حرفاً عطف فكذا الواو. ومن قال: إنها للقسم احتج بأنها لو كانت للعطف لكان عطفاً على عاملين، لأن قوله {واليل} مثلاً مجرور بواو القسم و{إِذَا يغشى} منصوب بالفعل المقدر الذي هو أقسم فلو جعلت الواو في {والنهار إِذَا تجلى} للعطف لكان النهار معطوفاً على الليل جراً، و{إِذَا تجلى} معطوفاً على {إِذَا يغشى} نصباً فصار كقولك: إن في الدار زيداً أو في الحجرة عمراً. وأجيب بأن واو القسم تنزل منزلة الباء والفعل حتى لم يجز إبراز الفعل معها فصارت كأنها العاملة نصباً وجراً، وصارت كعامل واحد له عملان، وكل عامل له عملان يجوز أن يعطف على معموليه بعاطف واحد بالاتفاق نحو: ضرب زيد عمراً وبكر خالداً، فترفع بالواو وتنصب لقيامها مقام ضرب الذي هو عاملهما، فكذا هنا. و «ما» مصدرية في {والسماء وَمَا بناها * والأرض وَمَا طحاها * وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا} أي وبنائها وطحوها أي بسطها وتسوية خلقها في أحسن صورة عند البعض وليس بالوجه لقوله {فَأَلْهَمَهَا} لما فيه من فساد النظم، والوجه أن تكون موصولة وإنما أوثرت على «من» لإرادة معنى الوصفية كأنه قيل: والسماء، والقادر العظيم الذي بناها، ونفس والحكيم الباهر الحكمة الذي سواها. وإنما نكرت النفس لأنه أراد نفساً خاصة من بين النفوس وهي نفس آدم كأنه قال: وواحدة من النفوس، أو أراد كل نفس، والتنكير للتكثير كما في {عَلِمَتْ نَفْسٌ} [الانفطار: 5] {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} فأعلمها طاعتها ومعصيتها أفهمها أن أحدهما حسن والآخر قبيح {قَدْ أَفْلَحَ} جواب القسم والتقدير: لقد أفلح، قال الزجاج: صار طول الكلام عوضاً عن اللام. وقيل: الجواب محذوف وهو الأظهر تقديره ليدمدمن الله عليهم أي على أهل مكة لتكذيبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم كما دمدم على ثمود لأنهم كذبوا صالحاً، وأما {قَدْ أَفْلَحَ} فكلام تابع لقوله {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} على سبيل الاستطراد وليس من جواب القسم في شيء {مَن زكاها} طهرها الله وأصلحها وجعلها زاكية {وَقَدْ خَابَ مَن دساها} أغواها الله، قال عكرمة: أفلحت نفس زكاها الله وخابت نفس أغواها الله. ويجوز أن تكون التدسية والتطهير فعل العبد، والتدسية: النقص والإخفاء بالفجور وأصل دسّى دسس، والياء بدل من السين المكررة. {كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا} بطغيانها إذ الحامل لهم على التكذيب طغيانهم {إِذِ انبعث} حين قام بعقر الناقة {أشقاها} أشقى ثمود قدار بن سالف وكان أشقر أزرق قصيراً. و«إذ» منصوب ب {كَذَّبَتْ} أو بالطغوى {فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ الله} صالح عليه السلام {نَاقَةُ الله} نصب على التحذير أي احذروا عقرها {وسقياها} كقولك: الأسد الأسد {فَكَذَّبُوهُ} فيما حذرهم منه من نزول العذاب إن فعلوا {فَعَقَرُوهَا} أي الناقة أسند الفعل إليهم وإن كان العاقر واحداً لقوله: {فَنَادَوْاْ صاحبهم فتعاطى فَعَقَرَ} [القمر: 29]. لرضاهم به {فَدَمْدمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ} أهلكهم هلاك استئصال {بِذَنبِهِمْ} بسبب ذنبهم وهو تكذيبهم الرسول وعقرهم الناقة {فَسَوَّاهَا} فسوى الدمدمة عليهم لم يفلت منها صغيرهم ولا كبيرهم {وَلاَ يَخَافُ عقباها} ولا يخاف الله عاقبة هذه الفعلة أي فعل ذلك غير خائف أن تلحقه تبعة من أحد كما يخاف من يعاقب من الملوك، لأنه فعل في ملكه وملكه {لاَّ يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ} [الأنبياء: 23]، {فَلاَ يَخَافُ} مدني وشامي.
إحدى وعشرون آية مكية. بسم الله الرحمن الرحيم {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى (1) وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى (2) وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (3) إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى (4) فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى (10) وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى (11) إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى (12) وَإِنَّ لَنَا لَلْآَخِرَةَ وَالْأُولَى (13) فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى (14) لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى (15) الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى (16) وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (17) الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى (18) وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى (19) إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى (20) وَلَسَوْفَ يَرْضَى (21)} {واليل إِذَا يغشى} المغشي، أما الشمس من قوله {واليل إِذَا يغشاها} [الشمس: 4] أو النهار من قوله {يغشى اليل النهار} [الأعراف: 54] أو كل شيء يواريه بظلامه من قوله {إِذَا وَقَبَ} [الفلق: 3] {والنهار إِذَا تجلى} ظهر بزوال ظلمة الليل {وَمَا خَلَقَ الذكر والأنثى} والقادر العظيم القدرة الذي قدر على خق الذكر والأنثى من ماء واحد، وجواب القسم {إِنَّ سَعْيَكُمْ لشتى} إن عملكم لمختلف وبيان الاختلاف فيما فصل على أثره {فَأَمَّا مَنْ أعطى} حقوق ماله {واتقى} ربه فاجتنب محارمه {وَصَدَّقَ بالحسنى} بالملة الحسنى وهي ملة الإسلام، أو بالمثوبة الحسنى وهي الجنة، أو بالكلمة الحسنى وهي لا إله إلا الله {فَسَنُيَسّرُهُ لليسرى} فسنهيئه للخلة اليسرى وهي العمل بما يرضاه ربه {وَأَمَّا مَن بَخِلَ} بماله {واستغنى} عن ربه فلم يتقه أو استغنى بشهوات الدنيا عن نعيم العقبى {وَكَذَّبَ بالحسنى} بالإسلام أو الجنة {فَسَنُيَسّرُهُ للعسرى} للخلة المؤدية إلى النار فتكون الطاعة أعسر شيء عليه وأشد، أو سمى طريقة الخير باليسرى لأن عاقبتها اليسر، وطريقة الشر بالعسرى لأن عاقبتها العسر، أو أراد بهما طريقي الجنة والنار. {وَمَا يُغْنِى عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تردى} ولم ينفعه ماله إذا هلك، وتردى تفعّل من الردى وهو الهلاك، أو تردى في القبر أو في قعر جهنم أي سقط {إِنَّ عَلَيْنَا للهدى} إن علينا الإرشاد إلى الحق بنصب الدلائل وبيان الشرائع {وَإِنَّ لَنَا لَلآخِرَةَ والأولى} فلا يضرنا ضلال من ضل ولا ينفعنا اهتداء من اهتدى، أو أنهما لنا فمن طلبهما من غيرنا فقد أخطأ الطريق {فَأَنذَرْتُكُمْ} خوفتكم {نَاراً تلظى} تتلهب {لاَ يصلاها} لا يدخلها للخلود فيها {إِلاَّ الأشقى الذى كَذَّبَ وتولى} إلا الكافر الذي كذب الرسل وأعرض عن الإيمان {وَسَيُجَنَّبُهَا} وسيبعد منها {الأتقى} المؤمن {الذى يُؤْتِى مَالَهُ} للفقراء {يتزكى} من الزكاء أي يطلب أن يكون عند الله زاكياً لا يريد به رياء ولا سمعة، أو يتفعل من الزكاة و{يتزكى} إن جعلته بدلاً من {يؤتى} فلا محل له لأنه داخل في حكم الصلة، والصلاة لا محل لها، وإن جعلته حالاً من الضمير في {يؤتى} فمحله النصب. قال أبو عبيدة: الأشقى بمعنى الشقي وهو الكافر، والأتقى بمعنى التقي وهو المؤمن لأنه لا يختصر بالصلى أشقى الأشقياء، ولا بالنجاة أتقى الأتقياء، وإن زعمت أنه نكر النار فأراد ناراً مخصوصة بالأشقى فما تصنع بقوله: {وَسَيُجَنَّبُهَا الأتقى}، لأن التقي يجنب تلك النار المخصوصة لا الأتقى منهم خاصة، وقيل: الآية واردة في الموازنة بين حالتي عظيم من المشركين وعظيم من المؤمنين، فأريد أن يبالغ في صفتيها، فقيل {الأشقى} وجعل مختصاً بالصلي كأن النار لم تخلق إلا له، وقيل الأتقى وجعل مختصاً بالنجاة كأن الجنة لم تخلق إلا له، وقيل: هما أبو جهل وأبو بكر. وفيه بطلان زعم المرجئة لأنهم يقولون لا يدخل النار إلا كافر {وَمَا لاِحَدٍ عِندَهُ مِن نّعْمَةٍ تجزى إِلاَّ ابتغاء وَجْهِ رَبّهِ} أي وما لأحد عند الله نعمة يجازيه بها إلا أن يفعل فعلا يبتغي به وجه ربه فيجازيه عليه {الأعلى} هو الرفيع بسلطانه المنيع في شأنه وبرهانه، ولم يرد به العلو من حيث المكان فذا آية الحدثان {وَلَسَوْفَ يرضى} موعد بالثواب الذي يرضيه ويقرّ عينه وهو كقوله تعالى لنبيه عليه السلام: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فترضى} [الضحى: 5].
مكية وهي إحدى عشرة آية. بسم الله الرحمن الرحيم {وَالضُّحَى (1) وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى (2) مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى (3) وَلَلْآَخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى (4) وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى (5) أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآَوَى (6) وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى (7) وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى (8) فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ (9) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ (10) وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (11)} {والضحى} المراد وقت الضحى وهو صدر النهار حين ترتفع الشمس. وإنما خص وقت الضحى بالقسم لأنها الساعة التي كلم الله فيها موسى عليه السلام وألقى فيها السحرة سجداً، أو النهار كله لمقابلته بالليل في قوله {واليل إِذَا سجى} سكن، والمراد سكون الناس والأصوات فيه، وجواب القسم {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قلى} ما تركك منذ اختارك وما أبغضك منذ أحبك والتوديع مبالغة في الودع، لأن من ودعك مفارقاً فقد بالغ في تركك، روي أن الوحي تأخر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أياماً فقال المشركون: إن محمداً ودعه ربه وقلاه، فنزلت. وحذف الضمير من {قلى} كحذفه من الذاكرات في قوله: {والذاكرين الله كَثِيراً والذاكرات} [الأحزاب: 35]، يريد والذاكراته ونحوه: {فاوى}، {فهدى}، {فأغنى} وهو اختصار لفظي لظهور المحذوف {وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الأولى} أي ما أعد الله لك في الآخرة من المقام المحمود والحوض المورود والخير الموعود خير مما أعجبك في الدنيا، وقيل: وجه اتصاله بما قبله أنه لما كان في ضمن نفي التوديع والقلى أن الله مواصلك بالوحي إليك وأنك حبيب الله، ولا ترى كرامة أعظم من ذلك، أخبره أن حاله في الآخرة أعظم من ذلك لتقدمه على الأنبياء وشهادة أمته على الأمم وغير ذلك. {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ} في الآخرة من الثواب ومقام الشفاعة وغير ذلك {فترضى} ولما نزلت قال صلى الله عليه وسلم " إذا لا أرضى قط وواحد من أمتي في النار " واللام الداخلة على «سوف» لام الابتداء المؤكدة لمضمون الجملة، والمبتدأ محذوف تقديره: ولأنت سوف يعطيك، ونحوه لأقسم فيمن قرأ كذلك لأن المعنى لأنا أقسم، وهذا لأنها إن كانت لام قسم فلامه لا تدخل على المضارع إلا مع نون التوكيد فتعين أن تكون لام الابتداء، ولامه لا تدخل إلا على المبتدأ والخبر فلا بد من تقدير مبتدأ وخبر كما ذكرنا، كذا ذكره صاحب الكشاف. وذكر صاحب الكشاف هي لام القسم، واستغنى عن نون التوكيد لأن النون إنما تدخل ليؤذن أن اللام لام القسم لا لام الابتداء، وقد علم أنه ليس للابتداء لدخولها على «سوف» لأن لام الابتداء لا تدخل على «سوف»، وذكر أن الجمع بين حرفي التأكيد والتأخير يؤذن بأن العطاء كائن لا محالة وإن تأخر. ثم عدد عليه نعمه من أول حاله ليقيس المترقب من فضل الله على ما سلف منه لئلا يتوقع إلا الحسنى وزيادة الخير، ولا يضيق صدره ولا يقل صبره فقال {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً} وهو من الوجود الذي بمعنى العلم والمنصوبان مفعولاه، والمعنى ألم تكن يتيماً حين مات أبواك {فاوى} أي فآواك إلى عمك أبي طالب وضمك إليه حتى كفلك ورباك {وَوَجَدَكَ ضَالاًّ} أي غير عالم ولا واقف على معالم النبوة وأحكام الشريعة وما طريقة السمع {فهدى} فعرفك الشرائع والقرآن. وقيل: ضل في طريق الشام حين خرج به أبو طالب فرده إلى القافلة. ولا يجوز أن يفهم به عدول عن حق ووقوع في غي فقد كان عليه الصلاة السلام من أول حاله إلى نزول الوحي عليه معصوماً من عبادة الأوثان وقاذورات أهل الفسق والعصيان {وَوَجَدَكَ عَائِلاً} فقيراً {فأغنى} فأغناك بمال خديجة أو بمال أفاء عليك من الغنائم {فَأَمَّا اليتيم فَلاَ تَقْهَرْ} فلا تغلبه على ماله وحقه لضعفه {وَأَمَّا السائل فَلاَ تَنْهَرْ} فلا تزجره فابذل قليلاً أو رد جميلاً. وعن السدي: المراد طالب العلم إذا جاءك فلا تنهره {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبّكَ فَحَدّثْ} أي حدث بالنبوة التي آتاك الله وهي أجل النعم، والصحيح أنها تعم جميع نعم الله عليه ويدخل تحته تعليم القرآن والشرائع والله أعلم.
مكية وهي ثمان آيات. بسم الله الرحمن الرحيم {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1) وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ (2) الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (3) وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ (4) فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (6) فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7) وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ (8)} {ألم نشرح لك صدرك} استفهم عن انتفاء الشرح على وجه الإنكار فأفاد إثبات الشرح فكأنه قيل: شرحنا لك صدرك، ولذا عطف عليه {وضعنا} اعتباراً للمعنى أي فسحناه بما أودعناه من العلوم والحكم حتى وسع هموم النبوة ودعوة الثقلين، وأزلنا عنه الضيق والحرج الذي يكون مع العمى والجهل، وعن الحسن: مليء حكمة وعلماً {صَدْرَكَ وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ} وخففنا عنك أعباء النبوة والقيام بأمرها، وقيل: هو زلة لا تعرف بعينها وهي ترك الأفضل مع إتيان الفاضل، والأنبياء يعاتبون بمثلها ووضعه عنه أن غفر له، والوزر: الحمل الثقيل {الذى أَنقَضَ ظَهْرَكَ} أثقله حتى سمع نقيضه وهو صوت الانتقاض {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} ورفع ذكره أن قرن ذكر الله في كلمة الشهادة والأذان والإقامة والخطب والتشهد وفي غير موضع من القرآن: {أَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرسول} [محمد: 33] [التغابن: 12]. {وَمَن يُطِعِ الله وَرَسُولَهُ} [النساء: 13]. {والله وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ} [التوبة: 62]. وفي تسميته رسول الله ونبي الله ومنه ذكره في كتب الأولين. وفائدة لك ما عرف في طريقة الإبهام والإيضاح لأنه يفهم بقوله: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ} أن ثم مشروحاً، ثم أوضح بقوله {صَدْرَكَ} ما علم مبهماً وكذلك {لَكَ ذِكْرَكَ}، و{عَنكَ وِزْرَكَ}. {فَإِنَّ مَعَ العسر يُسْراً إِنَّ مَعَ العسر يُسْراً} أي إن مع الشدة التي أنت فيها من مقاساة بلاء المشركين يسراً بإظهاري إياك عليهم حتى تغلبهم. وقيل: كان المشركون يعيرون رسول الله والمؤمنين بالفقر حتى سبق إلى وهمه أنهم رغبوا عن الإسلام لافتقار أهله، فذكره ما أنعم به عليه من جلائل النعم. ثم قال {إِنَّ مَعَ العسر يُسْراً} كأنه قال: خولناك ما خولناك فلا تيأس من فضل الله فإن مع العسر الذي أنتم فيه يسراً، وجيء بلفظ «مع» لغاية مقاربة اليسر العسر زيادة في التسلية ولتقوية القلوب، وإنما قال عليه السلام عند نزولها " لن يغلب عسر يسرين " لأن العسر أعيد معرفاً فكان واحداً لأن المعرفة إذا أعيدت معرفة كانت الثانية عين الأولى، واليسر أعيد نكرة والنكرة إذا أعيدت نكرة كانت الثانية غير الأولى، فصار المعنى إن مع العسر يسرين. قال أبو معاذ: يقال إن مع الأمير غلاماً إن مع الأمير غلاماً، فالأمير واحد ومعه غلامان. وإذا قال: إن مع أمير غلاماً وإن مع الأمير الغلام، فالأمير واحد والغلام واحد. وإذا قيل: إن مع أمير غلاماً وإن مع أمير غلاماً فهما أميران وغلامان كذا في «شرح التأويلات». {فَإِذَا فَرَغْتَ فانصب} أي فإذا فرغت من دعوة الخلق فاجتهد في عبادة الرب، وعن ابن عباس رضي الله عنهما: فإذا فرغت من صلاتك فاجتهد في الدعاء، واختلف أنه قبل السلام أو بعده، ووجه الاتصال بما قبله أنه لما عدد عليه نعمه السالفة ومواعيده الآتية بعثه على الشكر والاجتهاد في العبادة والنصب فيها، وأن يواصل بين بعضها وبعض ولا يخلي وقتاً من أوقاته منها فإذا فرغ من عبادة ذنبها بأخرى {وإلى رَبّكَ فارغب} واجعل رغبتك إليه خصوصاً ولا تسأل إلا فضله متوكلاً عليه {وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ المؤمنون} [إبراهيم: 11].
|